كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذا كان المتقرب إليه بالأعمال يعطي أضعاف أضعاف ما تقرب به فما.
الظن بمن أعطي حال التقرب وذوقه ووجده فما الظن بمن تقرب إليه بروحه وجميع إرادته وهمته وأقواله وأعماله وعلى هذا فكما جاد لحبيبه بنفسه فإنه أهل أن يجاد عليه بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه عوضا عن كل شيء جزاءا وفاقا فإن الجزاء من جنس العمل وشواهد هذا كثيرة منها قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ففرق بين الجزائين كما ترى وجعل جزاء المتوكل عليه كونه سبحانه حسبه وكافيه ومنها أن الشهيد لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته ومنها أن من بذل لله شيئا أعاضه الله خيرا منه ومنها قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} ومنها قوله في الحديث القدسي «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير منه» ومنها قوله: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا» الحديث فالعبد لا يزال رابحا على ربه أفضل مما قدم له وهذا المتقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة بل حياة من ليس كذلك بالنسبة إلى حياته كحياة الجنين في بطن أمه بالنسبة إلى حياة أهل الدنيا ولذتهم فيها بل أعظم من ذلك فهذا نموذج من بيان شرف هذه الحياة وفضلها وإن كان علم هذا يوجب لصاحبه حياة طيبة فكيف إن انصبغ القلب به وصار حالا ملازما لذاته فالله المستعان.
فهذه الحياة هي حياة الدنيا ونعيمها في الحقيقة فمن فقدها فقده لحياته الطبيعية أولى به:
هذي حياة الفتى فإن فقدت ** ففقده للحياة أليق به

فلا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفوسهم إليه واطمأنت قلوبهم به واستأنسوا بقربه وتنعموا بحبه ففي القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه والإنابة إليه ولا يلم شعثه بغير ذلك ألبتة ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها هموم وغموم وآلام وحسرات فإنه إن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات فإن همته لا ترضى فيها بالدون وإن كان مهينا خسيسا فعيشه كعيش أخس الحيوانات فلا تقر العيون إلا بمحبة الحبيب الأول:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنينه أبدا لأول منزل

فصل المرتبة التاسعة: من مراتب الحياة حياة الأرواح بعد مفارقتها الأبدان وخلاصها من هذا السجن وضيقه فإن من روائه فضاء وروحا وريحانا وراحة نسبة هذه الدار إليه كنسبة بطن الأم إلى هذه الدار أو أدنى من ذلك قال بعض العارفين لتكن مبادرتك إلى الخروج من الدنيا كمبادرتك إلى الخروج من السجن الضيق إلى أحبتك والاجتماع بهم في البساتين المونقة قال الله تعالى في هذه الحياة {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} ويكفي في طيب هذه الحياة مرافقة الرفيق الأعلى ومفارقة الرفيق المؤذي المنكد الذي تنغص رؤيته ومشاهدته الحياة فضلا عن مخالطته وعشرته إلى الرفيق الأعلى الذين أنعم الله عليهم من النبي صلى الله عليه وسلم والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا في جوار الرب الرحمن الرحيم.
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا ** في الموت ألف فضيلة لا تعرف

منها أمان لقائه بلقائه ** وفراق كل معاشر لا ينصف

ولو لم يكن في الموت من الخير إلا أنه باب الدخول إلى هذه الحياة وجسر يعبر منه إليها لكفي به تحفة المؤمن:
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه ** أبر بنا من كل بر وألطف

يعجل تخليص النفوس من الأذى ** ويدني إلى الدار التي هي أشرف

فالاجتهاد في هذا العمر القصير والمدة القليلة والسعي والكدح وتحمل الأثقال والتعب والمشقة إنما هو لهذه الحياة والعلوم والأعمال وسيلة إليها وهي يقضه وما قبلها من الحياة نوم وهي عين وما قبلها أثر وهي حياة جامعة بين فقد المكروه وحصول المحبوب في مقام الأنس وحضرة القدس حيث لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب حيث الطمأنينة والراحة والبهجة والسرور حيث لا عبارة للعبد عن حقيقة كنهها لأنها في بلد لا عهد لنا به ولا إلف بيننا وبين ساكنه فالنفس لإلفها لهذا السجن الضيق النكد زمانا طويلا تكره الانتقال منه إلى ذلك البلد وتستوحش إذا استشعرت مفارقته وحصول العلم بهذه الحياة إنما وصل إلينا بخبر إلهي على يد أكمل الخلق وأعلمهم وأنصحهم فقامت شواهدها في قلوب أهل الإيمان حتى صارت لهم بمنزلة العيان ففرت نفوسهم من هذا الظل الزائل والخيال المضمحل والعيش الفاني المشوب بالتنغيص وأنواع الغصص رغبة في هذه الحياة وشوقا إلى ذلك الملكوت ووجدا بهذا السرور وطربا على هذا الحد واشتياقا لهذا النسيم الوارد من محل النعيم المقيم ولعمر الله إن من سافر إلى بلد العدل والخصب والأمن والسرور صبر في طريقه على كل مشقة وإعواز وجدب وفارق المتخلفين أحوج ما كان إليهم وأجاب المنادي إذا نادى به حي على الفلاح وبذل نفس في الوصول بذل.
المحب بالرضى والسماح وواصل السير بالغدو والرواح فحمد عند الوصول مسراه وإنما يحمد المسافر السري عند الصباح عند الصباح يحمد القوم السري % وفي الممات يحمد القوم اللقا وما هذا والله بالصعب ولا بالشديد مع هذا العمر القصير الذي هو بالنسبة إلى تلك الدار كساعة من نهار {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فلو أن أحدنا يجر على وجهه يتقي به الشوك والحجارة إلى هذه الحياة لم يكن ذلك كثيرا ولا غبنا في جنب ما يوقاه فواحسرتاه على بصيرة شاهدت هاتين الحياتين على ما هما عليه وعلى همة تؤثر الأدنى على الأعلى وما ذاك إلا بتوفيق من أزمة الأمور بيديه ومنه ابتداء كل شيء وانتهاؤه إليه أقعد نفوس من غلبت عليهم الشقاوة عن السفر إلى هذه الدار وجذب قلوب من سبقت لهم منه الحسنى وأقامهم في الطريق وسهل عليهم ركوب الأخطار فأضاع أولئك مراحل أعمارهم مع المتخلفين وقطع هؤلاء مراحل أعمارهم مع السائرين وعقدت الغبرة وثار العجاج فتوارى عنه السائرون والمتخلفون وسينجلي عن قريب فيفوز العاملون ويخسر المبطلون ومن طيب هذه الحياة ولذتها قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا وأن لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع إلى الدنيا لما يرى من كرامة الله له يعني ليقتل فيه مرة أخرى وسمع بعض العارفين منشدا ينشد:
إنما العيش في بهيمية اللـ ** ـذة لا ما يقوله الفلسفي حكم

كأس المنون أن يتساوى ** في حساها البليد والألمعي

ويصير الغبي تحت ثرى الأر ** ض كما صار تحتها اللوذعي

فسل الأرض عنهما إن أزال الشـ ** ـك والشبهة السؤال الجلي

فقال قاتله الله ما أشد معاندته للدين والعقل هذا نفس عدو الفطرة والشريعة والعقل والإيمان والحكمة يا مسكين أمن أجل أن الموت تساوى فيه الصالح والطالح والعالم والجاهل وصاروا جميعا تحت أطباق الثرى أيجب أن يتساووا في العاقبة أما تساوى قوم سافروا من بلد إلى بلد في الطريق فلما بلغوا القصد نزل كل واحد في مكان كان معد له وتلقى بغير ما تلقى به رفيقه في الطريق أما لكل قوم دار فأجلس كل واحد منهم حيث يليق به وقوبل هذا بشيء وهذا بضده أما قدم على الملك من جاءه بما يحبه فأكرمه عليه ومن جاءه بما يسخطه فعاقبه عليه أما قدم ركب المدينة فنزل بعضهم في قصورها وبساتينها وأماكنها الفاضلة ونزل قوم على قوارع الطريق بين الكلاب أما قدم اثنان من بطن الأم الواحدة فصار هذا إلى الملك وهذا إلى الأسر والعناء وقولك سل الأرض عنهما أما إنا قد سألناها فأخبرتنا أنها قد ضمت أجسادهم وجثثهم وأوصالهم لا كفرهم وإيمانهم ولا أنسابهم وأحسابهم ولا حلمهم وسفههم ولا طاعتهم وجثثهم ومعصيتهم ولا يقينهم وشكهم ولا توحيدهم.
وشركهم ولا جورهم وعدلهم ولا علمهم وجهلهم فأخبرتنا عن هذه الجثث البالية والأبدان المتلاشية والأوصال المتمزقة وقالت هذا خبر ما عندي وأما خبر تلك الأرواح وما صارت إليه فسلوا عنها كتب رب العالمين ورسله الصادقين وخلفاءهم الوارثين سلوا القرآن فعنده الخبر اليقين وسلوا من جاء به فهو بذلك أعرف العارفين وسلوا العلم والإيمان فهما الشاهدان المقبولان وسلوا العقول والفطر فعندها حقيقة الخبر {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} تعالى الله أحكم الحاكمين عن هذا الظن والحسبان الذي لا يليق إلا بأجهل الجاهلين ثم قال الناظر في هذا الباب رجلان رجل ينظر إلى الأشياء ورجل ينظر في الأشياء فالأول يحار فيها فإن صورها وأشكالها وتخاطيطها تستفرغ ذهنه وحسه وتبدد فكره وقلبه فنظره إليها بعين حسه لا يفيده منها ثمرة الاعتبار ولا زبدة الاختبار لأنه لما فقد الاعتبار أولا فإنه فقد الاختيار ثانيا وأما الناظر في الأشياء فإن نظره يبعثه على العبور من صورها إلى حقائقها والمراد بها وما اقتضى وجودها من الحكمة البالغة والعلم التام فيفيده هذا النظر تمييز مراتبها ومعرفة نافعها من ضارها وصحيحها من سقيمها وباقيها من فانيها وقشرها من لبها ويميز بين الوسيلة والغاية وبين وسيلة الشيء ووسيلة ضده فيعرف حينئذ أن الدينا قشر والآخرة لبه وأن الدنيا محل الزرع والآخرة وقت الحصاد وأن الدنيا معبر وممر والآخرة دار مستقر وإذا عرف أن الدنيا طريق وممر كان حريا بتهيئه الزاد لقراره ويعلم.
حينئذ أنه لم ينشأ في هذه الدار للاستيطان والخلود ولكن للجواز إلى مكان آخر هو المنزل والمتبوأ وأن الإنسان دعي إلى ذلك بكل شريعة وعلى لسان كل نبي وبكل إشارة ودليل ونصب له على ذلك علم وضرب لأجله كل مثل ونبه عليه بنشأته الأولى ومبادئه وسائر أحواله وأحوال طعامه وشرابه وأرضه وسمائه بحيث أزيلت عنه الشبهة وأوضحت له المحجة وأقيمت عليه الحجة وأعذر إليه غاية الإعذار وأمهل أتم الإمهال فاستبان لذي العقل الصحيح والفطرة السليمة أن الظعن عن هذا المكان ضروري والانتقال عنه حق لا مرية فيه وأن له محلا آخر له قد أنشئ ولأجله قد خلق وله هيئ فمصيره إليه وقدومه بلا ريب عليه وأن داره هذه منزل عبور لا منزل قرار وبالجملة من نظر في الموجودات ولم يقنع بمجرد النظر إليها وحدها وجدها دالة على أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أكمل منها وأن هذه الحياة بالنسبة إليها كالمنام بالنسبة إلى اليقظة وكالظل بالنسبة إلى الشخص وسمعها كلها تنادي بما نادى به ربها وخالقها وفاطرها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وتنادى بلسان الحال بما نادى به ربها بصريح المقال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ثم ندبهم إلى المسابقة إلى الدار الآخرة الباقية التي لا زوال لها فقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وسمع بعض العارفين منشدا ينشد عن بعض الزنادقة عند موته وهو محمد ابن زكريا الرازي المتطبب:
لعمري ما أدري وقد اذن البلى ** بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي

وأين محل الروح بعد خروجه ** عن الهيكل المنحل والجسد البالي

فقال وما علينا من جهله إذا لم يدر أين ترحاله ولكننا ندري إلى أين ترحالنا وترحاله أما ترحاله فإلى دار الأشقياء ومحل المنكرين لقدرة الله وحكمته والمكذبين بما اتفقت عليه كلمة المرسلين عن ربهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ لْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} وأما ترحالنا أيها المسلمون المصدقون بلقاء ربهم وكتبه ورسله فإلى نعيم دائم وخلود متصل ومقام كريم وجنة عرضها السموات والأرض في جوار رب العالمين وأرحم الراحمين وأقدر القادرين وأحكم الحاكمين الذي له الخلق والأمر وبيده النفع والضر الأول بالحق الموجود بالضرورة المعروف بالفطرة الذي أقرت به العقول ودلت عليه كل الموجودات وشهدت بوحدانيته وربوبيته جميع المخلوقات وأقرت بها الفطر المشهود وجوده وقيوميته بكل حركة وسكون بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون الذي خلق السماوات والأرض.